| التاريخ القديم | ||||
|---|---|---|---|---|
| العصر الحجري الحديث | العصر البرونزي | العصر الحديدي | العصر المتأخر قبل الإسلام | |
إناء أثري من الفخار يعود إلى فترة العبيد وقد زُيّن بطلاء بني داكن. © متحف المتروبوليتان للفنون، نيويورك
ساعدت الطبيعة المتميزة لفخار العبيد في التعرف إليه ضمن مواقع أخرى في جميع أنحاء البلاد، ويرجع ذلك إلى تميز تصميماته الهندسية واستخدام الطلاء الداكن فوق طبقة باللون الكريمي. كما تم العثور على اكتشافات مماثلة على طول الساحل في إمارتي الشارقة وأم القيوين، وكذلك في العديد من الجزر قبالة ساحل أبوظبي. بشكل عام، فإن هذه القطع الأثرية مجتمعة، وإن كانت محدودة، فإنها تسهم في فهمٍ أعمق للحياة في رأس الخيمة أواخر العصر الحجري.
لم يُعرف عن الأشخاص الذين سكنوا الإمارة قبل 7000 عام سوى القليل جداً، ولكن على مدار الثلاثين عاماً الأخيرة تم الكشف عن بعض التفاصيل التي أوضحت مجريات الحياة في ذلك الوقت. فقد كان سكان الإمارة يعيشون في مستوطنات موسمية على طول الساحل، متخذين من الغوص وصيد السمك بشكل عام مهنة لهم، فالأدلةُ تشيرعلى وجود كمياتٍ كبيرةٍ من عظام الأسماكِ وبقر البحر (الأطوم) والسلاحف والدلافين في تلك المنطقة، ما يدل على أن المأكولات البحرية شكّلت مصدر رئيسًا لغذائهم، فضلاً عن وجود عظام مصدرها الماشية، ما يعني أنهم امتهنوا تربيتها أيضاً، كما تكشف بقايا فخار العبيد التي تم العثور عليها في الجزيرة الحمراء عن نشاطات التجارة البحرية
آنذاك، لكن الصورة الكاملة لهذا النوع من التجارة لا تزال غير واضحة.
كان سكان هذه المنطقة في الأساس إما من البدو الرُحّل، أو شبه الرُحّل، ممن يعملون في رعاية قُطْعان الماشية والأغنام والماعز، ويصطادون الحيوانات البرية بأسلحة من الصوان وأحجار أخرى، على غرار الغزلان. وقد تسنى لهم العيش في كنف أراضٍ كانت أكثر اخضراراً مما هي عليه اليوم.
إن العثور على رؤوس سهام وكاشطات، وسكاكين، وأدوات حفر، إلى جانب رقائق حجرية (نوع من الأدوات الحجرية)، وشفرات مصنوعة من أنواع مختلفة من حجر الصوان، مدفونة في التلة بالقرب من الجزيرة الحمراء يدلُّ ويؤكّدُ على تطور أدوات الصّيد -في تلك الحقبة- في عدّة مواقع داخل الإمارات العربية المتحدة، إذ تم العثور على قطع صوان مماثلة تعود إلى الحقبة الزمنية نفسها في مواقع بالقرب من قرية خت، بما في ذلك مكان لتصنيع تلك الأسلحة، يوجد به أدوات مكسورة أو غير مكتملة. وتشمل هذه الأسلحة وجود ساطور (سكين كبيرة) ذي حدين، وقدّوم (شبيه بالفأس)، وإسفين، ورأسي سهم صغيرين مكسورين، والعديد من الكاشطات والشفرات وأدوات الحفر. من الواضح أنهم كانوا يستخدمون أدوات الصيد البدائية هذه في الصيد والتقطيع والتجميع بهدف الاستقرار.
على الرغم من صعوبة تخيُّل الأجواء المناخية التي سادت قبل 7000 عام، إلا أنها كانت أفضل من الظروف المناخية الحالية، حيث انتشرت آنذاك بحيرات المياه العذبة، والمروج الخضراء لتربية الماشية، فضلاً عن وفرة الأعشاب البحرية التي كانت مناسبة لبقر البحر (الأطوم) والكائنات البحرية الأخرى. في تلك الأيام كانت المناظر الطبيعية في رأس الخيمة فريدة من نوعها--كما هي اليوم-، وذلك بفضل ما تتسم به من بحار وجبال وسهول خصبة؛ فشكلت هذه الموارد مزيجاً رائعاً لا يقدر بثمن لأولئك الذين عاشوا هناك في تلك الحقبة الزمنية.
وفي سياق متصل، لم يتم العثور على أية لُقى أثرية أخرى من أواخر العصر الحجري، ما يجعل الأدلة على الوجود البشري قليلة وغير واضحة، وهو أمر لم تتجلَ تفاصيله حتى العصر البرونزي.
مدافن يعود تاريخها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.
فترة حفيت (3200 – 2600 قبل الميلاد)
على عكس المستوطنين الذين عاشوا خلال العصر الحجري الحديث في رأس الخيمة، تميزت فترة حفيت بانتشار المستوطنات في الواحات. وعلى طول جبال شمال رأس الخيمة، وتحديداً حول "قرن الحرف" و"قرية خت" و"وادي القور"، تم الكشف عما يزيد على 150 مدفناً، وهو مؤشر إلى وجود آثار بشرية يعود تاريخها لأكثر من 5000 عام. وعلى الرّغم من قلّة المعلومات التي تم التوصل إليها عن حياتهم اليومية، إلا أن عدد هذه المدافن يدل على وجود مستوطنات قديمة في الواحات، ومجموعات شبه بدوية ارتحلت من مكان لآخر.
وعُثر على اللقى الأثرية لهذه الفترة في العديد من المواقع، بما في ذلك المنطقتان البارزتان، وهما: قرية خت وقرن الحرف. وقد اشتُهِرت الأولى بينابيعها الحارة، وتعد أقدم منطقة مأهولة بالسكان بشكل دائم في رأس الخيمة، مع وجود أدلة على نشاطات بشرية تعود إلى العصر الحجري الحديث، في حين أن المنطقة الثانية عبارة عن تلٍّ منعزلة أمام جبال الحجر تقع بين وادي البيح ووادي النقب. واكتشفت عالمة الآثار البريطانية بياتريس دي كاردي المدافن في قرية خت للمرة الأولى عام 1977 على التلال السفلية شرق الينابيع، وهي مصنوعة من الحجر المحلي غير المصقول أو المقطوع، وقد كانت في الأصل على هيئة خلية نحل مكونة من حجرة صغيرة، أو حجرتين للدفن، تتسع لشخصين وحتى خمسة أشخاص، وتقع الحجرتان على ارتفاع يقدر تقريباً بمترين، ويتراوح قِطْر كلّ منهما بين سبعة وتسعة أمتار. وعلى الرغم من أن البناء الداخلي لهذه المقابر نادراً ما كان مرئياً، إلا أن الغرف المركزية الصغيرة كانت مكشوفة جزئياً. غالبية الحجرات إما تعرضت للانهيار أو نُهِبت، رغم أن معظمها تشترك في الخصائص الهيكلية، وتنتشر على مساحة تُقدّر بنحو كيلومتر واحد تتمركز على هضبة صغيرة، شبيهة بتلك التي عُثِرَ عليها في مدينة العين.
واكتشفت دائرة الآثار والمتاحف بإمارة رأس الخيمة في "قرن الحرف" على أكبر مجموعة من حجارة حفيت في رأس الخيمة. كما تتوزع أكثر من ستين مقبرة على مجموعات صغيرة على حواف وأسفل التل. وتشير هذه الأعداد الكبيرة إلى مستوطنة قديمة تعود إلى عصر ما قبل التاريخ، مثل تلك التي تم العثور عليها في منطقة الحيل والفحلين.
آثار مدافن وادي سوق في قرن الحرف ضمن سهل خصب يحتوي على ستين من أنظمة المقابر وحجراتها على الأقل. © لي هوغلاند / ذا ناشيونال
أصبح تأريخ هذه الهياكل ممكناً، وذلك من خلال الاكتشافات الفخارية التي عُثِرت في عدد من أقدم مقابر العين، وتضمّنت النّتائج فخاراً مزخرفاً من بلاد ما بين النهرين يعود إلى فترة جمدة نصر (3100 – 2900 قبل الميلاد)، ومجموعة من خرز الأنابيب الصّغيرة باللّونين الأزرق والأخضر، ويُظْهِرُ لنا فخار هذه المنطقة تشابهاً مع ذاك الموجود في منطقة بلاد ما بين النهرين (العراق حالياً) للفترة ذاتها، الأمر الذي يؤكد نشأة علاقات تجارية في وقت مُبكر شبيهة بالعلاقات القائمة في وقتنا الحاضر، علاوة على ذلك فقد اكتشفت دائرة الآثار والمتاحف أدلة تاريخية أخرى خلال أعمال الحفر والتنقيب الأخيرة في " قرن الحرف"، حيث عثرت على أجزاء من الفخار تعود إلى أواخر فترة حفيت / أوائل فترة أم النار، وعند الأخذ بالاعتبار أن معظم المقابر التي تعود إلى فترة حفيت تعرضت للنهب والسرقة، فإنه لا يتوافر لدينا سوى القليل من المعلومات التي من شأنها أن تسهم في التّوصل إلى صورة واضحة عن سكان تلك المنطقة، ولم يتم اكتشاف أي آثار أخرى تدل على وجود مبانٍ، أو مستوطنات قديمة تعود إلى هذه الفترة في رأس الخيمة وبقية مناطق الإمارات العربية المتحدة.
مقبرة كبيرة تعود إلى فترة أم النار في منطقة شمل.
تم التّنقيب عن المقبرة الثانية التي يقع على بُعد 200 متر شمال الأولى، في عامي 1997 و1998 من قِبَل فريق دائرة الآثار والمتاحف بإمارة رأس الخيمة. وكانت أكبر مقبرة معروفة من نوعها في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان، وقد بلغ قطر الهيكل الدائري 14.5 متراً، وتألفت القبور في الداخل من حجرات عدة صُمّمت للدفن الجماعي لا للدّفن الفردي، ومن المُرجح أن تكون للعائلات الكبيرة التي استخدمت هذه القبور لأجيال عدة، لم يبق من هذه القبور سوى الأجزاء السفلية من المبنى، رغم ارتفاع القبر الذي يتراوح بين مترين وثلاثة أمتار، ويضم اثنتي عشرة غرفة دفن مقسمة بجدران داخلية. وبشكل إجمالي كانت هنالك ثلاث وحدات قبور، لكل منها مداخل متطابقة.
لقد أقيمت الجدران الخارجية للمقبرة على قاعدة ذات وجهين مختلفين يشكلان الجدار الدائري. وتم تشكيل حجارة الرماد المقطعة من الحجر الجيري الأبيض لتتناسب مع شكل القبر المنحني. وتمتد هذه الواجهة اللاّمعة والنّاعمة حتى السّقف، ما يعطي انطباعاً بوجود برج أبيض كبير. أمّا في الداخل فكانت هناك طبقة من الحجارة المنحوتة تقريباً، حيث أغلقت جميع المداخل بأحجار ذات أشكال خاصة، في حين سهّلت مقابضها المنحوتة عملية الفتح والإغلاق كلما احتاجوا الوصول على أماكن الدفن.
لعلّ طقوس الدفن الجماعية التي حدثت في كلا المقبرتين معقّدة؛ فعَقِبَ الدفن الأولي على الأرضية المرصوفة، وبعد إزالة العظام والمقتنيات الجنائزية، كانوا يقومون بحرقها وإعادتها إلى القبر، ثم توضع على الرفوف. وقد دفن مئات الأفراد مع مجموعة واسعة من المتعلّقات الشخصية والقطع الأثرية، مثل الأواني الخزفية، والمجوهرات، والأسلحة والأواني الحجرية الملساء. وفي وقت لاحق كانوا يعمدون إلى حرق الجثث لإفساح المجال لمزيد من المدافن، ، وهذا يفسّر لنا وجود عدد كبير من الجثث والتي تقدّر بما يزيد على 400 جثّة، حتى إنه تم دفن امرأة مع كلبها.
وتم اكتشاف مقابر مشابهة لمدافن "أم النار" في مواقع أخرى عدة في جميع أنحاء الإمارة، بما في ذلك وادي المنيعي واعسمة، إذ عُثِرَ على مجموعة من القطع الأثرية المهمة، مثل أقداح برونزية، ورؤوس رماح، وأنصال خناجر. ويشير اكتشاف أجزاء وبقايا جِرار للتّخزين تعود إلى حضارة وادي السند، (باكستان والهند حالياً) إلى أنه من المُرجح أنهم كانوا يصدّرون كميات كبيرة من البضائع إلى الخليج. ففي مقبرة أم النار الكبيرة بمنطقة شمل على سبيل المثال، شكّل الفخار المستورد 15 في المائة من إجمالي المجموعة المكتشفة، بما في ذلك فخار بلاد ما بين النهرين الذي يرجع إلى أواخر العصر الأكادي، فضلاً عن فخار بامبور وكفتاري من مقاطعتي بلوشستان وفارس في إيران على التوالي. إضافة إلى ذلك، كُشِفَ النقاب عن فخار منقوش أسود ورمادي اللون من إيران، إلى جانب أجزاء تعود إلى قرية هارابا في باكستان.
وتشير الأدلة أيضاً، إلى أن النحاس جرى شحنه من الخليج الأدنى إلى بلاد ما بين النهرين ووادي السند. وتصف نصوص بلاد ما بين النهرين نشوء العلاقات التجارية مع منطقة في شبه الجزيرة العربية تُعرف باسم "ماجان" منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. ويعتقد المؤرخون أنها كانت تشمل منطقة تغطيها الآن الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان،
فقد كانت "ماجان" مصدراً قيّماً للنحاس، تستخدمه القوى الإقليمية في ذلك الوقت. وكان يُستخرج من جبال الحجر، ويتم شحنه بكميات كبيرة إلى مدن في بلاد ما بين النهرين ووادي السند، إلى جانب سلعٍ أخرى مثل الأخشاب والحجارة. وأسهمت هذه العلاقات التجارية في تطور الثقافات بشكل متزايد، حيث امتدت عبر طرق التّجارة المهمّة بين المواقع السّاحلية والدّاخلية في سلطنة عُمان، وتلك الموجودة على الساحل الإماراتي، ويشير وجود مثل هذه العلاقات التّجارية إلى انتشار ثقافة السّفر بالسفن والملاحة آنذاك؛ حيث تطرّقت نصوص بلاد ما بين النهرين التّاريخية إلى “سفن ماجان” أيضاً.
نموذج لسفينة من ماجان. © مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، سلطنة عُمان
ومقارنة مع العصور السابقة، فإنّ كمية الأدلة ونوعيتها مكّنت علماء الآثار من بناء صورة أكثر وضوحاً عن مجريات الحياة في رأس الخيمة؛ فنجد أن المجتمعات خلال فترة أم النار كانت تعتمد على زراعة القمح والشعير والتمور وتربية الماشية، مثل: الأغنام والماعز، كانوا يعمدون أيضاً إلى الصيد البري والبحري، ولكن على حسب موقع المستوطنات، والصيد المتاح آنذاك، وهناك أيضاً، أدلة على تطور مجموعة واسعة من الصناعات الحرفية، بما في ذلك إنتاج الأواني الحجرية الملساء والفخار، وهذا ما أظهرته العديد من الأضرحة الحمراء الجميلة التي كانت تنتج محلياً، وتمّ العثور عليها في المقابر .الكبيرة في منطقة شمل. ويمكن القول إن استغلال النحاس وتصديره للخارج أدّى إلى إنشاء مجتمعات أكثر ازدهاراً وتقدماً.
إضافة إلى المقابر الكبيرة فقد ظهرت عناصر أخرى من المُرجح أنها تعكس الحياة الاجتماعية في مناطق أخرى فالمنطقة كالأبراج الدفاعية الكبيرة الكائنة في العين. والفجيرة.
مقبرة تعود إلى فترة وادي سوق في منطقة شمل، وقد أدرِجَت ضمن قائمة مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).
وكما ورد سابقاً، فإن منطقة شمل تعدّ نقطة تركيز أساسية، وهي موطن لمئات المقابر من فترة وادي سوق، وتعد أكبر مقبرة تتكون من أضرحة مصنوعة من صخور الميغاليث في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية. وعلى عكس فترة أم النار، فإن أكبر مقابر وادي سوق طويلة وضيقة، ويصل طولها إلى أربعة وعشرين متراً. وقد شكّلت مقابر جماعية لما لا يقل عن ثلاثين إلى ستين شخصاً، وتم تشييدها من أحجار الكلس المحلية. وحتى وقتنا الرّاهن، تم اكتشاف 150 من هذه القبور التي بنيت فوق سطح الأرض، ليس في "شمل" وحسب، وإنما في جميع أنحاء الإمارة. وتتكون القبور من غرفة واحدة، أو غرفتين، بجدران مزدوجة، ومدخل واحد يقع في منتصفها على جانب واحد. وفي "شمل"، صُممت معظم المقابر لتلائم طبيعة التضاريس، ما يمنع تسرّب مياه الأمطار إليها.
لقد تباينت وتنوّعت هذه المقابر في تصميماتها، من المقابر الجماعية الكبيرة المذكورة أعلاه إلى الهياكل الصغيرة (إما مستطيلة، أو بيضاوية الشكل) ذات جدران مزدوجة. كما عُثِرَ على تجمعات كبيرة من المقابر في ضاية وخت ووادي غليلة وقرن الحرف، حيث تم اكتشاف ثماني مقابر أثرية في وادي سوق في عام 2013، إلى جانب مقابر أصغر في وادي المنيعي. استخدمت بعض المقابر على مدى فترة طويلة من الزمن، وكانت تشتمل على حجرة دائرية خارجية إضافية تحيط بالمقبرة الداخلية القديمة، مع وجود ممر بينهما.
في مواقع الدفن هذه، تم العثور على مجموعات مُحيّرة من المقتنيات الشخصية بما في ذلك الأسلحة والمجوهرات، وأدوات مميزة من الفخار المُلوّن تشمل أكواباً وجراراً للسوائل، بينما تضم المجوهرات خرز العقيق والأحجار الكريمة، إضافة إلى خواتم من الصدف والبرونز، وأقراط فضية وأساور من البرونز أيضًا، كما عُثِرَ على مجوهرات بهيئة حيوانات صُنعت بعناية فائقة على شكل دبابيس أو دبابيس مزخرفة (بروش) من الفضة والكهرمان (إليكتروم) في كل من “شمل”، و”ضاية” و”قرن الحرف”، وتتألف هذه المجوهرات إمّا من تمثال حيوان واحد أو اثنين ملتصقين ظهراً لظهر، بذيول ملتفة للأعلى على شكل دوامة. لقد شكّلت تلك التماثيل الحيوانية ثروة متراكمة بحسب اعتقاداتهم، ومن المرجح أنها صُنِعت في فترة تجارة النحاس، ثمة دليل آخر على ازدهار تجارة النحاس في تلك الفترة، وهو وجود فخار في مقابر “وادي سوق” يعود إلى حضارتي وادي السند والبحرين، علمًا أنّ الفضة المستخدمة في المجوهرات كانت من الأناضول، ومكعبات الوزن من حضارة وادي السند.
إناء حجري أملس يعود إلى العصر الحديدي. © متحف رأس الخيمة الوطني
منذ حوالي 1000 عام قبل الميلاد، تم اختراع نظام رَيّ متطور وجديد في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية آنذاك عُرِفَ باسم “الفلج”، ما يجعله أحد أقدم الأنظمة من نوعها في العالم، كانت الأفلاج عبارة عن سلسلة من القنوات تحت الأرض تنقل المياه من الطبقات الجوفية على طول الجبال إلى الأراضي الزراعية المنخفضة، وكان تأثير الأفلاج واضحاً؛ حيث أتاح توزيع المياه على عدد كبير من المزارعين وزراعة مساحات أوسع من الأراضي القاحلة في ذلك الوقت، واستلزم اختراع نظام الفلج تطوير المراكز الإداريّة، ما أدّى إلى تكوين مجتمعات أكثر تطوراً.
نظام الأفلاج في الإمارات العربية المتحدة يعود إلى قرون عدة مضت، منذ تدشينه في عام 1000 تقريباً قبل الميلاد، إلى أواخر القرن العشرين. في الصورة فلج بمدينة العين في عام 1954. © الأرشيف الوطني، الإمارات العربية المتحدة.
في الواقع ظهرت درجة معينة من المركزية السياسية والاقتصادية خلال تلك الفترة، مع وجود نقش مسماري من “نينوى” في “آشور” (العراق حالياً) يشير إلى “بايد”، ملك “قاد”، عاش هذا الملك في منطقة يرجح أنها اليوم (إزكي) بسلطنة عُمان، وكان يدفع الجزية إلى الإمبراطور الآشوري -آشور بانيبال- في عام 640 قبل الميلاد على وجه التقريب.
ثمّة اعتقاد يفيد بأن إدخال نظام الأفلاج أدى إلى زيادة كبيرة في عدد المستوطنات في جميع أنحاء المنطقة، في حين كانت المستوطنات متفرقة خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث تمّ الكشف عن عشرات من مواقع العصر الحديدي في جميع أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان، ما يشير إلى أنّ هناك توسّع كبير واستيطان بالمنطقة، وتزامنت هذه الزيادة في عدد المجتمعات مع تطور معماري كبير، بينما استمّر بناء بيوت العريش، وقد تميز العصر الحديدي بمبانٍ أكبر، بما في ذلك المنازل المبنية من الطين أو الحجر، وفي كثير من الحالات كان من الممكن أن تكون هذه المباني مسيّجة بالجدران بما يمثّل حدوداً لمجتمعات كاملة. إنّ كلّ هذه التطورات في نظام الأفلاج والتوسع الزراعي وبناء المزيد من المباني الكبيرة تدلّ على زيادة في عدد سكان رأس الخيمة ودولة الإمارات العربية المتحدة في ذلك العصر.
وفي منطقة شمل، تم التنقيب عن بقايا مستوطنة بين حدائق النخيل والجبال، وكذلك تمّ التعرف إلى مستوطنات أخرى في مناطق غليلة وخت وضاية، حيث أمكن العثور على بقايا تحصينات من العصر الحديدي بالقرب من قمة تلٍّ يبلغ ارتفاعها سبعين متراً وتضم حصناً من القرون الوسطى. وفي الجهة الجنوبية لإمارة رأس الخيمة تمّ العثور أيضاً على العديد من المقابر الجوفيّة الكبيرة التي يعود تاريخها إلى فترة وادي سوق في منطقتي فشخة ونصلة بوادي القور ووادي المنيعي، وجميعها كانت مستخدمة في العصر الحديدي، إذ تعود تلك المدافن إلى قرى زراعية صغيرة تقع على حواف الوادي، وتتألف من مجموعات صغيرة من المنازل، واعتمدت هذه القرى على حدائق النخيل ورعي الأغنام والماعز وكانت على تواصل مع المجتمعات الساحلية
أمّا في منطقة الرفاق غرب مستوطنة نصلة، فقد عُثِر على بقايا مبانٍ مستطيلة الشكل، فضلاً عن هياكل دائرية يعتقد أنها كانت حظائر للحيوانات، وفي الجانب الشمالي من الوادي، وتحديداً على سلسلة من التلال المرتفعة المطلّة على الوادي الذي يقع أدناه، توجد أيضاً بقايا حصن كبير، وقد كشفت أعمال التنقيب عن وجود مبنى متعدد الغُرَف مع سلسلة من الدرجات المؤدية إلى الأعلى من الوادي الذي يقع أدناه.
وتشمل القطع الأثرية التي تمّ انتشالها من هذه المواقع أيضاً، على أوانٍ مطلية وغير مزخرفة، وعددٍ كبيرٍ من الحاويات الحجرية المنحوتة والمزخرفة، وأوعية حجرية محفورة ومعها إناء على شكل طائر أسطوري يُعرف باسم “فتخاء” (Griffin)وينطوي هذا الأخير على أهمية كبيرة نظراً لتشابهه بالأواني الآشورية الجديدة، وربما كان نسخة من الإناء المعدني الأصلي من “آشور” شمال العراق
ولا يزال الغموض يحيط بالكثير من المراحل الأخيرة للعصر الحديدي، ولكن هناك أدلة على أن الإمارات الشمالية، والساحل الشرقي الذي بات يُعرف الآن بسلطنة عُمان، أصبحا جزءاً من (ماكا)، وهي مقاطعة تابعة للإمبراطورية الأخمينية.
بقايا آثار لقصر شُيّد في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، في مليحة، إمارة الشارقة. © مركز مليحة للآثار.
بخلاف منطقتي مليحة والدور، تم اكتشاف عدد قليل جداً من المواقع في الإمارات العربية المتحدة التي تعود إلى هذه الفترة، باستثناء منطقة كوش شمال رأس الخيمة، ويرجع تاريخ هذا الموقع إلى أواخر فترة ما قبل الإسلام وحتى العصر الإسلامي، ومن اكتشافاته أربع أوانٍ زجاجية رومانية على الأقل. وعلى الرغم من العثور على بعض المواقع المهمة، بما فيها المقابر الفردية وبعض المقابر القديمة التي أعيد استخدامها في مناطق شمل وعصيمة ووادي المنيعي، إلاّ أن هناك نقصاً في الأدلة التي تشير إلى فترة الهلنستي والبارثية (الواقعة في الفترة من 300 قبل الميلاد، وحتى 300 بعد الميلاد).
تشير الآثار المكتشفة في "كوش" إلى وجود بشري في المنطقة منذ القرن الرابع.
نأتي إلى العصر الساساني الأخير قبل وصول الإسلام (300 – 632 للميلاد)، فوفقاً لكارنماج أردشير باباجان (كتاب أفعال أردشير بن باباج) الذي يروي قصة أردشير، مؤسس السلالة الساسانية، فإن الإمبراطورية الساسانية قاتلت رجال “مازون” منذ البداية (ويجب الإشارة هنا إلى أن إمارة رأس الخيمة كانت جزءاً منها آنذاك). وعلى الرغم من أن حُكم الفُرس ربما اقتصر على الوجود العسكري على طول الساحل، إلاّ أنه من الواضح الآن أن جزءاً كبيراً من رأس الخيمة قد احتلته الإمبراطورية الساسانية خلال آخر مراحل حكمهم، ولا يوجد مكان أكثر وضوحاً على ذلك من كوش، وهي منطقة أثرية تقع ضمن سهل “شمل”. وكشفت الحفريات التي أجرتها دائرة الآثار والمتاحف عن مجمع كبير ربما يكون مبنى عاماً، ومجموعة متنوعة من القطع والعملات الأثرية، وتشمل هذه العملات عملة للملك الساساني كافاد التي تم صنعها في الوقت ما بين 507 و519 للميلاد، فضلاً عن ختم ساساني من العقيق ومزين بزخرفة غريفة. يوجد دليل آخر في منطقة خت يفيد بوجود مستوطنة تعود إلى العصر الساساني أقيمت خلال القرنين الرابع والخامس، وذلك بناءً على اثنين من التلال الصغيرة يرجع تاريخهما في الغالب إلى تلك الفترة أيضاً. وهكذا ظلت الإمبراطورية الساسانية مسيطرة على ساحل إمارة رأس الخيمة لأكثر من 200 عام، حتى وصول الإسلام وهزيمتهم اللاحقة على أيدي ملوك الأزد في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية.