يعود التاريخ العريق لرأس الخيمة لنحو 7000 عام استمر خلالها وجود البشر على أرضها دون انقطاع، ليشمل جميع العصور الأثرية والتاريخية. حيث عبرت المنطقة خلالها ضمنَ العديد من مراحل تَشَكّل التضاريس التي أدت لنشوء الجبال الشاهقة والسهول الخصبة، والبحيرات، والمساحات الصحراوية، الأمر الذي أضفى تنوعاً كبيراً على بيئتها وجعلها مواتية لاستيطان البشر منذ القِدَم.
لا تزال فترة الانتقال من فترة أم النار إلى فترة وادي سوق محل اختلاف، فعلى الرغم من أن المتفق عليه عموماً هو أن تغير المناخ بدأ في تغيير حياة أولئك الذين سكنوا شبه الجزيرة العربية منذ عام 2200 قبل الميلاد تقريباً؛ إلا أن مدى هذا التحول يبقى محل تساؤلات عدة؛ هل أدى تغيّر المناخ إلى الابتعاد عن نمط حياة المجتمعات المستقرة والعودة إلى أسلوب حياة أكثر بداوة؟ أم أن المستوطنات استمرت على الرغم من التّغيّر الكبير الذي حدث في المناخ؟ أياً كانت الإجابة، فقد حدث التغير المناخي على مدى أكثر من 200 عام.لكن ما تمّ تأكيده هو أن البداية المفاجئة لتغير المناخ أدت إلى تعرض المنطقة لجفاف شديد، وتغير مشهدها الطبيعي جذرياً. وسبب حدوث هذا التغيير غير معروف حتى الآن، حتى إنه كان سبباً في سقوط الإمبراطورية الأكادية في بلاد ما بين النهرين، ما دفع السكان إلى هجر القرى والبلدات إلى أماكن أخرى. كما أدى هذا التغير إلى انهيار التجارة الإقليمية في بلاد ما بين النهرين، وتدلنا تلك المكتشفات على تراجع حضاري في تلك الفترة، إمّا بسبب التغيرات المناخية القاسية، أو لتوقف التجارة الخارجية للنحاس إلى بلاد ما بين النهرين. وهنالك اعتقاد أن ذلك الجفاف استمر لما يزيد على 300 عام، وانهارت حضارة وادي السند بسبب تراجع وضعف الرياح الموسمية الصيفية.وفي شبه الجزيرة العربية، أدت تلك الأحداث إلى هجرة الناس بحثاً عن المناطق التي توفر لهم المياه العذبة ومصدراً ثابتاً للغذاء. ومن بين تلك المواقع كانت رأس الخيمة. كما يمكن القول إن غالبية مواقع وادي سوق تنتشر على طول الساحل الشمالي، حيث الموارد البحرية وحدائق النخيل والمياه العذبة التي مكنت البشر من أن يسكنوا تلك المنطقة. ومقارنة مع فترة أم النار فقد كان المناخ رطباً وشكّلت الحياة في المناطق الداخلية تحدياً صعباً، ولهذا فإن التنوع في المشهد الطبيعي لرأس الخيمة أسهم في توفير بيئة مواتية للعيش فيها.ويجب الإشارة هنا إلى أنّ مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد لم يتميّز بحدوث تغيير مفاجئ في طريقة العيش والاستقرار فحسب؛ بل في بل في طريقة بناء المقابر وشكل الفخار المصنوع أيضا، حيث يشير موقع مقابر وادي سوق إلى أن غالبية الناس كانوا يعيشون في مستوطنات متفرقة من حدائق النخيل. ويكشف تحليل بقايا الهياكل العظمية لثلاث مقابر في منطقة شمل التي يعود تاريخها إلى بدايات فترة وادي سوق وأوسطها وأواخرها، عن تحول تدريجي من نظام غذائي متنوع إلى آخر تهيمن عليه المأكولات البحرية بشكل أكبر، وذلك رغم وجود أدلة على استمرار استخدام الأنشطة الزراعية في مواقع أخرى بالإمارات العربية المتحدة، خاصة (تل أبرق) الواقع بين الشارقة وأم القيوين، إذ اعتمد سكانها أيضاً على البحر، وقد اقتصرت هذه العادات على الإمارات الشمالية (رأس الخيمة وأم القيوين والشارقة)، في حقبة حافظت على تقاليد الدفن الجماعي بشكل واسع.مقبرة تعود إلى فترة وادي سوق في منطقة شمل، وقد أدرِجَت ضمن قائمة مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).وكما ورد سابقاً، فإن منطقة شمل تعدّ نقطة تركيز أساسية، وهي موطن لمئات المقابر من فترة وادي سوق، وتعد أكبر مقبرة تتكون من أضرحة مصنوعة من صخور الميغاليث في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية. وعلى عكس فترة أم النار، فإن أكبر مقابر وادي سوق طويلة وضيقة، ويصل طولها إلى أربعة وعشرين متراً. وقد شكّلت مقابر جماعية لما لا يقل عن ثلاثين إلى ستين شخصاً، وتم تشييدها من أحجار الكلس المحلية. وحتى وقتنا الرّاهن، تم اكتشاف 150 من هذه القبور التي بنيت فوق سطح الأرض، ليس في "شمل" وحسب، وإنما في جميع أنحاء الإمارة. وتتكون القبور من غرفة واحدة، أو غرفتين، بجدران مزدوجة، ومدخل واحد يقع في منتصفها على جانب واحد. وفي "شمل"، صُممت معظم المقابر لتلائم طبيعة التضاريس، ما يمنع تسرّب مياه الأمطار إليها.لقد تباينت وتنوّعت هذه المقابر في تصميماتها، من المقابر الجماعية الكبيرة المذكورة أعلاه إلى الهياكل الصغيرة (إما مستطيلة، أو بيضاوية الشكل) ذات جدران مزدوجة. كما عُثِرَ على تجمعات كبيرة من المقابر في ضاية وخت ووادي غليلة وقرن الحرف، حيث تم اكتشاف ثماني مقابر أثرية في وادي سوق في عام 2013، إلى جانب مقابر أصغر في وادي المنيعي. استخدمت بعض المقابر على مدى فترة طويلة من الزمن، وكانت تشتمل على حجرة دائرية خارجية إضافية تحيط بالمقبرة الداخلية القديمة، مع وجود ممر بينهما.في مواقع الدفن هذه، تم العثور على مجموعات مُحيّرة من المقتنيات الشخصية بما في ذلك الأسلحة والمجوهرات، وأدوات مميزة من الفخار المُلوّن تشمل أكواباً وجراراً للسوائل، بينما تضم المجوهرات خرز العقيق والأحجار الكريمة، إضافة إلى خواتم من الصدف والبرونز، وأقراط فضية وأساور من البرونز أيضًا، كما عُثِرَ على مجوهرات بهيئة حيوانات صُنعت بعناية فائقة على شكل دبابيس أو دبابيس مزخرفة (بروش) من الفضة والكهرمان (إليكتروم) في كل من “شمل”، و”ضاية” و”قرن الحرف”، وتتألف هذه المجوهرات إمّا من تمثال حيوان واحد أو اثنين ملتصقين ظهراً لظهر، بذيول ملتفة للأعلى على شكل دوامة. لقد شكّلت تلك التماثيل الحيوانية ثروة متراكمة بحسب اعتقاداتهم، ومن المرجح أنها صُنِعت في فترة تجارة النحاس، ثمة دليل آخر على ازدهار تجارة النحاس في تلك الفترة، وهو وجود فخار في مقابر “وادي سوق” يعود إلى حضارتي وادي السند والبحرين، علمًا أنّ الفضة المستخدمة في المجوهرات كانت من الأناضول، ومكعبات الوزن من حضارة وادي السند.
أواخر العصر البرونزي (1600 – 1250 قبل الميلاد)
استمر احتلال عدد من مستوطنات وادي سوق خلال أواخر العصر البرونزي، بما في ذلك “تل أبرق”، و”كلباء”، في حين أن الكثير من المعلومات حول فترة أواخر العصر البرونزي في رأس الخيمة جاءت عن طريق الاكتشافات في مستوطنة واقعة بمنطقة شمل التي تمّ التنقيب عنها للمرة الأولى عام 1986، وقد شُيّدت على منحدرات “رؤوس الجبال”، وتمت توسعتها حول صخرة بارزة مثلّثة الشكل، وكشفت المستوطنة -المحصنة بجدار دفاعي كبير كان قد أقيم على طول حافة مصطبة الوادي إلى الجنوب- عن وجود بيوت عريش قائمة على مستويات متدرجة فوق الوادي، ويشير اكتشاف قواقع كبيرة في الغرب من المستوطنة، إلى أن سكّانها اعتمدوا على جدول مائي صغير للحصول على قوتهم، في حين أن التّمور وعظام الحيوانات تعد دليلاً على النشاط الزراعي في المنطقة. إنّ البقايا الأثرية الكثيرة التي عُثِر عليها خلال أواخر العصر البرونزي في مناطق غليلة وضاية والفلية والفحلين وخت دليل واضح على أن رأس الخيمة كانت مدينة مزدحمة ومكتظة بالسّكان./span>وعلى الرّغم من أن بعض جوانب أواخر العصر البرونزي تدلّ على امتداد ثقافيّ من فترة وادي سوق، إلاّ أن اكتشافات الفخار التي تعود إلى “شمل” أظهرت اختلافاً واضحاً فيما يتعلق بالثقافة المادية، وتشمل الفخاريات المميزة على سبيل المثال أقداحاً وأوعية كبيرة وصغيرة، فضلاً عن أوعية صغيرة ومقوسة وهي الأمثلة الوحيدة المَطْلِيّة. إضافة إلى ذلك، ثمة تغيير ملحوظ في الأسلحة خلال هذا العصر أيضاً، حيث تم العثور على سيوف طويلة في المقابر في جميع أنحاء الإمارات العربية المتحدة بما في ذلك منطقة شمل، وهي سيوف يتراوح طولها بين ثلاثين وستين سنتيمتراً، كما تم العثور على سيوف قصيرة مميزة، وخناجر نصلها مصبوب بالمقبض كقطعة واحدة. وفي المراحل الأخيرة من الفترة نفسها استُخدمت الفؤوس ذات الثقب، واستمر استخدام تلك السيوف القصيرة في العصر الحديدي، وكان لها مقبض بحوافٍ مرصّعة، كما ظهرت رؤوس الأسهم للمرة الأولى في هذه الفترة./span>